الاخلاق
هوية موثقة |
ذ. عبد الحق بن درى
لعل الوقوف على الكلمة ليس في مضمونها اللغوي الاشتقاقي بل في معناها الفكري العام، يستوجب عدم حصر مفهوم الاخلاق في الجانب الديني، او تقييده بزمان او مكان محدد، بل لابد من استحضار البعد الكوني للأخلاق. ذلك ان المفهوم يتعدى كل الحدود الجغرافية والزمكانية، ليصبح مجالا يحظى باهتمام كل الأمم والثقافات، انه المجال الذي عرف نقاشا ميتافيزيقيا بعيد عن الواقع. ونقاشا فلسفيا نظريا تأثر ببعض النظريات الفلسفية الكلاسيكية القديمة والتي ساهمت في جعل الفكر الفلسفي يدخل الى مجال الاخلاق من بابه الواسع، ونقاشا دينيا بجكم ما انتجته الديانات السماوية في بعدها الروحي او باقي التعبدات والطقوس التي اهتمت بالمجال، وأخيرا المجال العلمي الذي توصل الى حقائق علمية تثبت ان الشعوب التي تجعل الاخلاق من أولويات ثقافتها المحلية تتمتع بمنسوب مهم من التقدم والتطور والازدهار الإنساني.
الاخلاق في الفلسفة:
لابد في بداية الامر ان نقف عند مفهوم الاخلاق من الناحية للغة والاصطلاحية، وان كان الامر نوقش وكتب عنه ما يكفي في مواقع عدة. ان مفهوم الاخلاق لغة هي جمع خُلق وهو الطبع والسجية والدين، وتهني أيضا حال للنفس راسخة تصدر عنها أفعال الخير أو الشر من غير حاجة الى تفكر او تمهل . ومن الناحية الاصطلاحية فالأخلاق تتنوع مضامينها من مجال فكري وعلمي الى اخر، فمن الناحية الفلسفية تعبر الاخلاق عن القدرة على التمييز بين الخير والشر عند الافراد وهو أيضا الفضيلة التي يتغلب فيها الجانب الإلهي على جانب الشهوات وتفضيل المحبوبات والمرغوبات .والمتأمل في التعريف يتضح له أهمية التركيز على القيم الإنسانية الكونية الإيجابية التي تدعو الى نشر الخير وفعل ما من شانه ان يخدم الإنسانية جمعاء، قيم نبيلة إيجابية تنظر الى الانسان نظرة تفاؤلية تستشرف المستقبل وتسعى الابتعاد عن كل اشكال الشر والعدوانية.وتتضح أهمية الاخلاق كمجال فلسفي، استأثر باهتمام الفلسفة اليونانية الكلاسيكية التي اكدت على ما تم ذكره. فنجد الفيلسوف افلاطون عرف الاخلاق بأنها " تتمثل في كبح شهوات الانسان والتسامي فوق مطالب الجسد الى النفس والروح"، عنا يبرز افلاطون اهمية التعالي عن الأشياء المادية والمؤقتة والرقي بالإنسانية الى ما هو اسمى وارقى، أي الانتقال من النظرة المادية المحدودة الى البعد الروحي والنفسي العالي. كما جاء ارسطو ليربط الاخلاق " بسعادة الانسان التي هي غاية وجوده"، فالإنسان في هذه الحياة يبحث عن السعادة ويفعل ما بوسعه ليعيش في استقرار وهناء، كما يسعى الى الابتعاد كل ما من شانه ان يخلق له الشقاء والتعاسة في حياته، هي الإرادة الحقيقة للإنسان منذ نعومة اظافره. لكن الذي يقلق اليوم والذي لابد من الوقوف عنده، هو هل السعادة الإنسانية تتحقق فيما هو مادي ملموس مرتبط بالمعيش اليومي، ام ان السعادة تتطلب امرا اخر؟
ان الذي يبحث عن السعادة في ما هو مادي في نظري هو كمن يبحث عن الكنز المفقود، يجري خلق متطلبات الحياة المادية وينتظر متى تتحقق لديه السعادة الأبدية ويحس بالراحة النفسية، لاسيما امام هذا الصخب والضجر الذي اصبح الانسان يعيشه في ما استجد من تحديات الحياة اليومية الشيء الذي يوضح بجلاء ما أهمية استحضار القيم والأخلاق في الحياة اليومية وينسجم الانسان مع ذاته ومع العالم الخارجي.ونعرج على تعريف الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط الذي واحد من اكبر الفلاسفة الذين على اشتغلوا على المسألة الأخلاقية في الفلسفة، من اكبر المفكرين الذين قدموا منتوجا فكريا ضخما ومهما في الاخلاق كمجال فلسفي، إضافة على اطروحته النقدية التي طرح فيها الحكم والعقل الخالص والعقل العملي في هذه الكتب الثلاثة، ولكن خصوصاً في الكتاب الأخير، كشف كانط أنه، إذ اعتقد خلال مرحلة مبكرة من مراحل تطوره بـ»إمكان قيام الأخلاق على الحسّ الجواني»، أو حتى على العاطفة مباشرة (في خطوات يتراوح تحركه فيها بين مفكرين إنكليز من طينة شافتسبري، والفرنسي جان – جاك روسو)، فإنه في المرحلة الجديدة، بات يؤمن أن الفلسفة الأخلاقية لا يمكنها أن تقوم إلا على العقل وحده، ما دام العقل هو ما يشكل مصدر الإلزام الأخلاقي، أي الوازع الأخلاقي. وانطلاقاً من هنا لم يعد كانط قادراً إلا على أن يسم الأخلاق بسمة «الضرورة المطلقة» منادياً بوجود قوانين أولية «كلية الضرورة في مضمار السلوك البشري» وكان هذا نوعاً من التجديد الأكيد في دراسة المسألة الأخلاقية في ذلك الحين. وعرف الاخلاق بأنها " مرتبطة بالإرادة النابعة من عقل الإنسان الواعي، لا من رغبته، وارى ان التمسك بالأخلاق وفعل الصواب واجب أخلاقي"، الشيء الذي يوضح الحاجة الماسة الى القيم الأخلاقية ومعايير السلوم الإيجابي. ان كانط قعد لمنطق الاخلاق باعتبارها التزام وجب على الانسان احترامها بغض النظر عن اية سلطة خارجية، ويدعو الى قول الحقيقة مهما كان الحال وتجنب كل أنواع الكذب والغش. انه بحق تكريس لثقافة يكون فيهل الانسان مسؤولا عن تصرفاته واعيا بسلوكاته وقراراته، ويحظى بالنضج الكافي لاختيار السلوك الصائب والمعقول، انها المسؤولية الأخلاقية التي تجعل من المجتمعات والشعوب ترقى بمستوياتها وثقافاتها الى ما يليق بها، والابتعاد عن كل ما من شانه ان يخدش مكانة الانسان وقيمته.
الاخلاق في الدين
ان الوقوف عند الحديث عن الخلاق في بعدها الديني، والإسلامي بشكل خاص، فيمكن تعريف الاخلاق " بمثابة مجموعة من المبادئ والقواعد التي يحددها الوحي، ويكون مصدره الله او الرسول وتقوم على تنظيم حياة الناس لابد من الإشارة الى ان الاخلاق ثقافة كونية وقانون طرحته كل الديانات السماوية ودعت الى مجتمع يتميز بوازع أخلاقي روحاني مهم، ذلك ان الكتب السماوية والانبياء والرسل جعلوا من الاخلاق قاطرة لتقويم الاعوجاج الذي تعيشه المجتمعات، ومجالا لتقدمها ورقيها لكي تتخلى عن لعض السلوكات والمظاهر التي لا تخدم مصلحته بشكل عام. ولعل ما أشار إليه نبينا محمد عليه الصلاة والسلام في حديثه" إنما بعثت لأتم مكارم الاخلاق " توضح او موضوع الاخلاق ليس وليد ظهور الإسلام، بل هو مشروع قديم قدم الزمان، وهو جاء ليزكي ما كان منها ويتم ما تحتاج إليه البشرية، كما الرسول كان قدوة لغيره في السلوك والتفكير والتسيير ... كان اول من يطبق ما يدعو اليه، لكي يكون في انسجام تام مع مبادئه، وهو ما زكته الآية القرانية " وإنك لعلى خلق عظيم"، فهذا الثناء الرباني يبرز ان الرسول كان حليما متخلقا وقدوة لامته. ان الاخلاق ليست هي المكوث في المساجد ولا القراءة القرآنية المستمرة، فهي أيضا السلوك الذي تعيشه مع الناس في المجتمع، حتى لا تسئ للثقافة التي تنتمي اليها والا الى الدين السلامي.ولعل التجسيد الثاني للأخلاق في الدين تبين في الصحابة رضوان الله عليهم، الذين عاشروا النبي عليه الصلاة والسلام، وتعلموا منه أسمى قيم الاخلاق وتعابيره المختلفة. ولقد عرفوا بالحلم والتواضع والإحسان والخير ونكران الذات والتضحية ونبذ العنف بكل اشكاله ومحاربة الظلم ... سيرهم وقصصهم كلها عبر وعظات لمن يعتبر، قدموا الكثير من اجل اعلاء راية الإسلام والمسلمين، لإتمام الصرح الطي بناه وشيده الرسول الأعظم محمد عله افضل الصلاة والسلام.
ولابد من الإشارة هنا الى ما لعبه علماء العرب والمسلمين في فترة زمنية مهمة احتد فيه النقاش عن الفلسفة والدين، وظهر فيها اجتهاد ثلة من المفكرين أمثال الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد زد على ذلك الغزالي أيضا، نقاش كان قويا حيث النقاش حول العلاقة التي تجمع الفكر الفلسفي بالدين، بين من يؤيدها ومن يعارضها، انها فترة العصور الوسطى التي جعلت الفكر العربي والسلامي يبلغ مداه ويفرض نفسه على باقي الأمم والثقافات، مرحلة انتجت فيها رموز الفكر والعلم ترسانة مهمة من القيم الإنسانية التي اكدت واظهرت ما يمتاز به الدين الاسلامي من تقبل الآخرين مهما كان شأنهم والدخول في نقاش غرضه اظهار الصورة الإيجابية التي يتميز به الدين الإسلامي. ولا يخفى على الثقافة الغربية ما قدمه هؤلاء العلماء والمفكرين من اجتهادات في مختلف المجالات، واستفادة الأوروبيين من علومهم وانتاجاتهم في الطب والفيزياء والفلك والفن والدين ... انها فترة ذهبية بصمت فيها الحضارة العربية الإسلامية بعلو كعبها ونضجها الفكري المنقطع النظير.
الاخلاق في العلم
لا يختلف اثنان في استحضار أهمية المقاربة العلمية في مناقشة اهم القضايا التي يطرحها الانسان للنقاش، بعدما برزت قدرة هذه المقاربة على استحضار الدراسات العلمية والبحوث المتخصصة في معالجة الأشياء. ومهو الامر الذي يكمل المجالات الأخرى في التعامل مع القضايا الإنسانية بشكل عام. ذلك ان المجال العلمي لم يغفل الحديث عن الجانب الإنساني في المواضيع، ولعل الاخلاق واحدة من هذه التي استأثرت باهتمام العلم والعلماء، على أساس وضع مقاييس يمكن من خلالها معرفة مدى تحقق هذه الاخلاق في الحياة اليومية، انه المنهج الذي تشتغل عليه العلوم الاجتماعية والذي اخد من كيفية دراسة العلوم الطبيعية وخصوصا مع اوكست كونت في الفلسفة الوضعية وفي السوسيولوجية التي جعلت من المجتمع جسد يمكن دراسته بالشكل الذي تدرس به الظواهر الطبيعية، وهو ما أكده اميل دوركايم عندما اكد على فكرة تشيئ الظواهر الاجتماعية لكي تصبح قابلة للقياس، ولتكون موضوعا بعيدا عن التحليل النظري المجرد، واستعمال الأرقام والإحصاءات في التعامل معها، الى حد انه وصل الان الى استعمال أنظمة الكترونية لقياس مجموعة من المؤشرات، وبالتالي إمكانية دراسة الظواهر الإنسانية بشكل منطقي ومعقول.ووجب الإشارة الى ان الفيلسوف والمفكر العربي، المجدد للفكر الفلسفي في عصرنا الدكتور طه عبد الرحمان خصص حيزا مهما من كتاباته وسائله للأخلاق، اشتغل عليها بشكل مستفيض مستحضرا كل النظريات التي تطرقت للموضوع في مختلف المرجعيات الثقافية، فبفكره الوسطي المعتدل استطاع ان يجعل من هذا الموضوع مباحث واوراق بحثية علمية مهمة، ونحتاج الى الرجوع اليها بين الفينة والأخرى لنفهم ما يحدث الان في واقعنا المجتمعي وانشغالاته.
ولقد سبق الإشارة الى معاني الاخلاق في مختلف المجالات الديني والفلسفي واللغوي الاشتقاقي.
ولم تفت مفكري الالحاد قضية الاخلاق فقد عبر المفكر فيودور دوستويفسكي في مقولة شهيرة يقول فيها " إن لم يكن الإله موحدا فكل شيء مباح"، أي ان الاخلاق الكونية تستوجب ان يكون الاله موحدا حتى يتم تقنين كل شيء، ونتفادى قانون الغاب والفوضى في التعامل مع الأشياء، واعتماد ثقافة النظام والتقنين والتسيير الموحد
خلاصة
حاولنا من خلال ما سبق طرحة من معطيات متعلقة بمجال الاخلاق، باعتباره مجالا ضخما وحقلا فكريا اشتغلت عليه البشرية في كل مسار الإنسانية منذ الازل، مجال حي وسيبقى كذلك مادام انه يقيس هموم الانسان وقضاياه، حولنا من خلال ما تم عرضه الحديث عن الاخلاق في مختلف تجلياتها، في بعدها الكوني الذي يتجاوز كل الحدود الجغرافية الدينية والعرقية. مرورا بالحديث عن ومختلف المقاربات التي ناقشت الموضوع، الفلسفية منها والدينية والعلمية، ليتضح ان مجال الاخلاق غني جدا ويستحق منا كل الاهتمام.♡ إدعمنا بمشارك المنشور مع المهتمين . شكرا
مرحبا بك في بوابة علم الاجتماع
يسعدنا تلقي تعليقاتكم وسعداء بتواجدكم معنا على البوابة